إريتريا.. مادام الريد اختلط بالدم! (1)

فيما أرى

عادل الباز

1
كلما سمعت أو قرات عن إريتريا خبراً طافت سلسلة من ذكريات أصدقائي (الأريتراب) أي من محبي إريتريا من لدن أبو القاسم حاج حمد إلى ماجد يوسف، أولئك الذين شكلوا وجداني وحبي للشعب الإريتري ومكنوني من رؤية عظمة كفاحه وتوقه للحرية التي قاتل من أجلها أكثر من ثلاثين عاماً (1961 بداية الثورة/ 1993 إعلان انتصارها).
لإريتريا قصة كفاح طويلة ومثيرة من أجل الاستقلال، قصة روتها أجيال من الإريتريين ودفعت ثمنها دموعاً ودماً، ومن هنا كان الرئيس إسياس أفورقي حين التقينا به يفهم تماماً أكثر من أي رئيس آخر في المنطقة معنى وأهمية مكافحة “الغزاة” المغتصبين للأوطان، ولذا كان الأكثر تحيزاً لموقف السودان وضرورة دعمه في حربه ضد الغزاة والمرتزقة الجارية حالياً، كان يلح في اللقاء ويكرر على مسامعنا ضرورة إنهاء الحرب لصالح الجيش السوداني لأن ذلك ضرورة لبقاء السودان موحداً، وتماسك ما أسماه (الحي) الذي يضم (الخليج العربي والقرن الإفريقي والبحر الأحمر)، وهو مفهوم لأول مرة استمع اليه من الرئيس إسياس.. يحتاج لبعض التفصيل قد نعود إليه لاحقاً.. كان السودان حاضراً طيلة مسيرة الكفاح الإريترية منذ مطلعها 1961، ومنذ ذلك التاريخ وقبله اختلط حبنا لإريتريا بالدم.
2
حين سألت الرئيس إسياس في اللقاء به ضمن الوفد الإعلامي السوداني الأسبوع الماضي بأسمرا عن الموقف الغريب الذي تقفه دول الجوار السوداني من الحرب في السودان وخذلانها للشعب السوداني، بل دعم بعضها للتمرد، انفجر غاضباً وقال لي: (بعض تلك الدول ليست دولاً، ولا يمكن اعتبارها كذلك، وبعضها الآخر لا يملك قراره).. الحقيقة أنني احترت في مدى غضبه ولكني تذكرت طرفاً من قصص الخذلان التي حكى عنها أستاذي وصديقي محمد أبو القاسم حاج حمد، قال لي إن الثورة الإريترية خذلها جميع من في الإقليم (ما عدا السودان)، وكتب حاج حمد في مفكرة الثورة الإريترية (إفريقيا اعتبرت الثورة الإريترية “حركة انفصالية” ينطبق عليها قرار القمة الإفريقية للعام 1964، والقاضي بعدم المساس بالحدود الموروثة عن الاستعمار الأوروبي.. في حين أن هذا القرار هو في حقيقته لصالح إريتريا لأن أثيوبيا هي التي ألغت الحدود الموروثة عن إيطاليا مع إريتريا وقامت باحتلالها.. وتناسى الأفارقة هذا الوضع حين وافقوا على اتخاذ العاصمة الإثيوبية مقراً دائماً لمنظمة الوحدة الإفريقية العام 1961 بعد تجاوز الانقسام بين كتلتي «مونروفيا» و«الدار البيضاء»، أي في العام نفسه الذي ضمت فيه إثيوبيا إريتريا.
عربياً، مصر كانت مدخل حركات التحرير_ بحكم ناصريتها_ مظرت إلى 86 في المائة من كمية وارداتها المائية التي تأتيها من المنابع الأثيوبية، إضافة إلى علاقات أقباط أثيوبيا وكنيستها الرسمية ببابويه الإسكندرية. وتنسيق «القاهرة» مع «أديس أبابا» في مختلف الشئون الإفريقية.
عربياً لم تؤدِ المناشدات الإريترية طوال الفترة من 1961 الى 1969 إلى بلورة أي تأييد عربي باستثناء ذلك الذي كان يتوسل به جامعيةو التبرعات الإريتريين، وانطلاق العمليات العسكرية داخل الميدان الإريتري منذ العام 1961 فإن الأمم المتحدة التي سبق لها أن أصدرت القرار الفيدرالي في ديسمبر/ كانون الأول 1950 لإقامة علاقات «تعاقدية» بين إريتريا وأثيوبيا إثر انسحاب إيطاليا من إريتريا في الحرب العالمية الثانية، فإن هذه الهيئة الدولية صاحبة القرار لزمت الصمت تماماً حين أقدم الإمبراطور الأثيوبي هيلا سلاسي على إنزال العلم الإريتري وحل البرلمان وإلغاء الحكومة الفيدرالية الإريترية منذ العام 1958 وليعلن «إلحاق» إريتريا رسمياً بإمبراطوريته في العام 1962.
3
هكذا ذاقت إريتريا خذلان الشقيق والقريب (ما عدا السودان)، وركن كلٌ إلى مصالحه بغض النظر عن كفاح وتضحيات الشعب الإريتري الذي يقاتل في سبيل قضية عادلة لا يعترف بها العالم المنحاز كما الحال حالياً، إذ يقاتل الشعب السوداني في قضيته العادلة التي لا يعترف العالم بها ويجد ذات الخذلان من الأشقاء والأصدقاء ودول الجوار (ماعدا إريتريا)، نفس الملامح والشبه، عجباً تلاقينا في الذات الغريبة.. في طرق التعفف والمصير مع الشعب الإريتري!!
لقد عرف الرئيس إسياس وجيله مرارة الخذلان، من هنا أتى غضبه حين رأى الخذلان ذاته يتكرر لدولة (السودان) أعطت كل شيء لأشقائها العرب ولدول جوارها الإفريقي من فضل علمها وخبرات أبنائها الذين ساهموا في تأسيس دولها، وحين تعرضت لغزو المرتزقة الجنجويد في هذا الزمن اللئيم، تآمر وموّل بعضهم قتل السودانيين، وآخرين مرروا السلاح للغزاة، فأي خذلان أكبر من ذلك؟
4
حتى لا نظلم أحداً، فلقد ذكر حاج حمد في مفكرة الثورة الإريترية أن (الموقف الإيجابي للانفصاليين في سورية قبل انقلاب البعث عليهم العام 1963 فقد تأثرت ثلاث شخصيات عربية في القاهرة بمأساة إريتريا وهم وقد رحمهم الله، الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين، والأمير المغربي عبدالكريم الخطابي قائد «ثورة الريف» ضد أسبانيا، والضابط السوري من أنصار انقلاب أديب الشيشكلي في سورية وهو عبد الحق شحادة.. عبر هؤلاء الثلاثة تم اتصال الأخ الشهيد عثمان صالح سبي بدمشق وقيادتها «الانفصالية» فاستقبلوا «ثلاثين» شاباً إريترياً نالوا التدريب في «معسكر قطنة» وزود الثورة بثمانين طناً من الأسلحة والذخائر وبذلك تأسست «البنى العسكرية التحتية» للثورة الإريترية.
الحقيقة التي لم يذكرها حاج حمد أنه هو من هندس العلاقات بين الانفصاليين السوريين والإرتريين وفتح مكتباً لهم في لبنان، وبذا استحق تضامنه، بل وكفاحه مع الثورة الإريترية عرفان الإريتريين إلى يوم الناس هذا، وحين قلت للرئيس إسياس أنا تلميذ وصديق حاج حمد لم يصدق، فشدّ على يدي مرة أخرى وأخذ معي صورة لعلها تطلع حلوه فتنتعش الذكريات الجميلة، للأسف لم تطلع كذلك لأن المصور كان الطاهر ساتي (الله لا كسّبو).
5
أخيراً، يحكى حاج حمد فيقول: (من الطرائف أن المقاتلين والأسلحة وصلوا إلى إريتريا بعد قيام حكم البعث عام 1963، أي في فبراير/ شباط العام 1965 «وبطريقة خاصة جداً» أبطالها في السودان رئيس وزراء ثورة أكتوبر الشعبية العام 1964 سر الختم الخليفة، ووزير شئون الرئاسة محمد جبارة العوض، ووزير العدل الرشيد الطاهر، ومدير الخطوط السودانية يوسف بخيت من دون علم قائد الجيش السوداني اللواء محمد أحمد الخواض، ووزير الخارجية محمد أحمد محجوب، ووزير الداخلية كلمنت أمبورو، فلما اتضح أمر الشحنة السورية، ولكن بعد إيصالها إلى إريتريا، أنكر رئيس الوزراء علمه بها، فيما هرب المرحومان وزير العدل والرئاسة إلى (قراهما) وفي ناحية أخرى يذكر حاج حمد (اعتمدت الثورة على مشتريات الذخائر والمواد الطبية من المستودعات الحكومية السودانية في الخرطوم و«تهريب» بعضها من دمشق عبر الحقائب الدبلوماسية الصومالية إلى مطار الخرطوم، ثم تنتهي هذه المشتريات السرية والمهربات إلى مخزن مطعم علي السيد الشعبية في الخرطوم لتعاد تعبئتها بوصفها «طحيناً» في جوالات الذرة).
6
هكذا ظلت مواقف السودان من حركة التحرر الإريترية ثابتة وداعمة (ماعدا مواقف محدودة ومتخاذلة من حكومة ثورة أكتوبر) للثورة الإريترية، حتى نالت إريتريا استقلالها، ولكن اختلاط (الريد بالدم) مع أهلنا وأحبابنا في إريتريا لم يبدأ مع الثورة الإريترية، بل أبعد من ذلك وأكثر عمقاً وقدماً.. نواصل

Exit mobile version