آن أوان الاستفاقة: نداء صادق إلى “حواضن الجنجويد”

خالد محمد أحمد
لسنا في مقام التوبيخ ولا موضع التهديد، بل إن ما يدفعنا إلى إسداء النصح لِمَنْ ما زال فيه بقيةٌ من ضمير هو غيرةٌ على وطنٍ يغلي جوفه وتتآكل تخومه، وحرصٌ على لملمة ما تبقّى من شتاته.
نوجّه هذا النداء إلى من يُطْلَق عليهم اصطلاحًا “حواضن الجنجويد”. نكتب لهم لا من باب التعميم الظالم، بل لأننا نؤمن أن فيهم مَنْ ما زال يرى، ومَنْ لم تتحجَّر بصيرته بعد، وإنْ تراكمت حوله الشعارات الفارغة.
لقد راهنتم، في لحظة اختلال موازين، على مشروعٍ وُلِد من رحم الجشع، ونما في تربة الكراهية، وتغذّى على الغبن التاريخي. مشروع استثمر في جراح الماضي لا لمداواتها، بل لاستغلالها. مشروع زيَّن لمن انخرطوا فيه وعدًا زائفًا بأنهم الأحقّ بالسلطة والثروة، وأن ساعة التمكين قد أزِفَت؛ لكنهم، في واقع الأمر، لم يكونوا سوى بيادق تُحرّكها أصابع آل دقلو، الذين لم يروا في السودان إلا غنيمة تُلتَهم بلا شبع.
انهار هذا الحلم سريعًا، وتحوَّل إلى كابوس؛ وها أنتم ذا اليوم في عزلةٍ ومواجهةٍ مع جلّ أهل السودان بعد أن خسرتم فتيانًا في ميْعة الصبا، وسمعةً كانت لكم بين القبائل، واحترامًا قديمًا تآكل تحت رماد المذابح والدم.
ومع ذلك، فإن باب الأوبة ما زال مواربًا، والفرصة مواتية لاستدراك ما فات. لقد آن لكم أن تنسلخوا من مشروع آل دقلو، لا خضوعًا لمنتصرٍ، بل ارتقاءً إلى مقام مَنْ يتحمَّل مسؤوليته التاريخية، ويكفّر عن خطئه قبل أن يتحوَّل إلى لعنةٍ أبدية.
ندرك أن فيكم مَنْ أُجْبِر، ومَنْ أُغرِي بوعود التمكين الزائفة، ومَنْ التبَس عليه الأمر وتاه في دوَّامة الخطاب التعبوي، وانساق وراء سراب “القضية” المصنوعة؛ لكن آن أوان التمييز في هذا الزمن القاسي الذي لا يرحم المتردّدين.
نعلم أن العزلة تحاصركم، وأن سُحب الريبة تتلبَّد فوق رؤوسكم، لكننا لا ندعو إلى ثأرٍ أعمى، بل نحذّر من دوَّامة انتقامٍ لا تُبقِي ولا تذَر. لسنا بصدد أن تدفع قبائل بعينها ثمن جريرة قادتها أو مراهقيها، بل أن يُفَكَّك هذا التحالف المَرَضي بين فئاتٍ من أبنائكم وميليشيا إلى زوال.
لا يكمن الحلّ في مزيدٍ من التشبُّث بالأوهام، بل في تمزيق ذلك العقد غير المكتوب الذي ربط مصيركم بمصير ميليشيا آيلة للسقوط. وإنْ أبدت الدولة قليلًا من الذكاء السياسي، فستُدرك أن تحرّي عدم الانتقام الجماعي هو المفتاح، وأن دمج الشرفاء منكم في مشروعٍ وطني جامع وعادل هو الطريق إلى المصالحة، لا الاستعداء والإقصاء، مع التمسُّك بمحاكمة الرؤوس التي دبَّرت ونفَّذت هذا الخراب، لا أؤلئك الذين ساقهم الجهل، أو الحاجة، أو العصبية إلى ميدان المعركة.
بنظرةٍ فاحصة، يتبيَّن لكلّ ذي عينٍ نافذة أن العوامل، التي أتاحت لمشروع آل دقلو فرصة الانقضاض فجر الخامس عشر من أبريل 2023، قد تبخَّرت ولن تتكرَّر؛ فالظروف لم تعُد كما كانت؛ وحتى مَنْ أغَرْتُم عليهم قد أفاقوا من غفلتهم، وأصبح تلبُّب الكلاش عندهم كالتلفُّح بالشال، وصوت الرصاص نشيدًا مألوفًا، ورائحة البارود عطرًا فوّاحًا، وصور الجثث والأشلاء مشهدًا يوميًّا. وهذا، لعَمْري، ممَّا يُدمي القلب، لكنه يشرح واقعًا لا يمكنكم تجاهله.
أوهام آل دقلو عن سلطةٍ أو تمكينٍ هي قطارٌ فات بلا رجعة؛ فلا تُراهنوا على ما انكسر، بل على ما تبقَّى من الوطن فيكم. فإن فعلتم، حفظتم مقامكم المعلوم؛ وإن أبيتم، فسيكتب التاريخ أنكم مَنْ جررتُم البلاد إلى هاويةٍ بلا قرار!
فهل من مُجيب؟



