رأي

آخر تطورات السودان.. الجيش يتقدم

أمواج ناعمة

د. ياسر محجوب الحسين

لم تكن التطورات الميدانية والعسكرية الأخيرة للحرب في السودان التي تشير إلى تقدم كبير ومحسوب الخطى للجيش السوداني هي أبلغ أهمية من الانتصار الأخلاقي الذي حققه الجيش السوداني على مليشيا الدعم السريع المتمردة عليه منذ منتصف ابريل الماضي. إذ أن القضاء على هذه المليشيا خلال أسابيع قليلة تمت التضحية به لأجل تقليل الخسائر وسط المدنيين وهم من تستهدفهم المليشيا بشكل رئيسي في أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، وشمل ذلك الهدف الأخلاقي التقليل من الخسائر وسط ضباط وجنود الجيش، بالإضافة إلى تقليل الخسائر في المواقع الحيوية والاستراتيجية والبنى التحتية. في المقابل كانت المليشيا تستهدف المواطنين وتدمير البنى التحتية والمؤسسات العامة عن قصد وسوء نية وتدفع بآلاف من عناصرها في عمليات انتحارية وكأن حياتهم ودماؤهم بلا ثمن في سبيل تحقيق أهداف آثمة لقيادة المليشيا وأسرة أل دقلو ومن يقف خلفهم من وراء البحار والصحاري.
لقد كانت هذه الحرب أكبر من كونها حربا غير تقليدية أو حرب مدن، لكونها تأسست على قدر كبير من الغدر والخيانة. كان الموقف العملياتي قبل الحرب يشير إلى وجود نحو 100 ألف من عناصر المليشيا في العاصمة المثلثة الخرطوم بكامل عتادهم وتسليحهم بينما كان في الطريق إليهم آلاف أخرى تحركت نحوهم ولم يكن وجودهم في معسكرات خارج العاصمة وإنما كانوا جزءًا لا يتجزأ من التي عُهد إليها بتأمين المؤسسات الحيوية، بينما لم يتجاوز عدد قوات الجيش نحو 37 ألفا بالعاصمة الخرطوم بينما البقية تحرس ثغور وأصقاع البلاد المنتشرة في 18 ولاية فيما تعادل مساحة إقليم دارفور وحدها مساحة فرنسا. ولذا كانت الخرطوم كلها بسكانها ومؤسساتها رهينة لدى المليشيا ساعة إطلاقها الرصاصة الأولى للحرب، وهي تظن أن إستلام السلطة سيكون خلال بضع ساعات بل كثير من الخبراء العسكريين حول العالم اندهشوا بعد إفشال الجيش السوداني هذا المخطط الإجرامي المحكم.
ولعل ما يشير إلى السيطرة شبه الكاملة للجيش للعاصمة الخرطوم وصول رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش نهاية الأسبوع المنصرم إلى المسافة صفر التي تفصل بين قوات الجيش وفلول عناصر المليشيا المتقهقهرة في مدينة أمدرمان الجزء الغربي من العاصمة الخرطوم، وتفقد قواته ومخاطبتهم ومباركة انتصارهم وتقدمهم. في موازاة ذلك بلغ استعداد وجاهزية المقاومة الشعبية ذروته بل بعضها انتظمت في الصفوف الأمامية جنبا إلى جنب مع قوات الجيش. ولابد من الإشارة هنا إلى أن هذه المقاومة في تكوينها تشبه تكوين الجيش باعتباره مؤسسة قومية، من حيث أنها ضمت كل السودانيين باختلاف توجهاتهم، تقف من وراءها رموز ثقافية وفكرية ونخبوية من مختلف التيارات السياسية. وليست البندقية التي تحملها المقاومة الشعبية، بندقية سياسية كما كان الحال في الحركات السياسية المسلحة بدءًا من حركات جنوب السودان وانتهاءً بحركات دارفور، إذ ارتبطت بأهداف سياسية جهوية ومناطقية وتحولت أهداف أغلبها إلى سعي لاقتسام السلطة بقوة السلاح.
إن التلاحم القوي بين الجيش والمواطنين ومقاومتهم الشعبية، فوت فرصة الترويج لمحاولة انقلابية ضمن الحرب النفسية ضد الجيش لصالح المليشيا من وراء البحار والتي تتورط فيها مؤسسات إعلامية بعينها. وبدا خبر الانقلاب ساذجا بالنظر إلى استحالة قيام محاولة انقلابية في الظروف الموضوعية الحالية، ومن لديه علم متواضع بالظروف المواتية للانقلاب العسكري يعلم أن بقاء الجيش في حالة استعداد مائة بالمائة بسبب حالة الحرب التي يخوضها، يصعب معها تنفيذ أي انقلاب. كما أن المناطق التي عادة ما يستهدفها الإنقلابيون مثل الإذاعة والتلفزيون وقيادة الجيش والحاميات العسكرية بالعاصمة كثير منها محل نزاع وبدون فعالية تذكر حتى في حال الاستيلاء عليها، إذ أن أجهزة الدولة وقيادتها لا وجود لها حاليا بالعاصمة وانتقلت إلى مدينة بورتسودان في شرق البلاد. ويبدو أن ما حدث هو اجتهاد حميد من بعض الضباط في منطقة أمدرمان تحت قبضة سلطان الحماس الزائد وفي اطار هامش صلاحية الضباط الميدانيين اتخاذ قرارات وتحركات ميدانية دون الرجوع إلى القيادات العليا. لكن ذلك أدى للاستفسار والتحقيق في الأمر وفق النسق المتبع ضمن قوانين الضبط والربط في الجيش، وقد عاد الضباط لعملهم الميداني في قيادة وحداتهم، فالواقعة مضى عليها نحو عشرة أيام عند الترويج للخبر.
وبالتوازي مع العمل العسكري الميداني جرت مفاوضات قيل أنها انعقدت في المنامة على أساس منبر جدة، مع دخول وسطاء جدد. وترى الحكومة السودانية أنه لا بأس من تحقيق السلام عبر التفاوض إن التزمت مليشيا الدعم السريع بما تم الاتفاق عليه في منبر جدة وهو وقف حرب المليشيا ضد المدنيين والخروج من مساكنهم وكل الأعيان المدنية التي تحتلها وإلا تستمر خطة الجيش في حصارهم وقطع الامداد عنهم حتى تستلم تماما كما يحدث الآن في مدينة أمدرمان. وعلى ما يبدو أن نطاق هذه المفاوضات منحصر في الجانب العملياتي والإنساني ولا يشمل أي مفاوضات سياسية. وقد أعلنت الحكومة أن التفاوض السياسي سيكون داخل السودان ويشمل كل القوى السياسية وليس من بينها المليشيا كجهة إعتبارية، لكونها فاقدة لأي مشروعية سياسية بسبب جرائمها فضلا عن حلها وتصنيفها منظمة إرهابية وصدرت تجاه قيادتها اتهامات وادانات دولية. ويشمل حوار الداخل ترتيبات الفترة الانتقالية ومتطلباتها والدخول مباشرة في إجراء انتخابات ولن تستغرق العملية وقتا طويلا. إن الحوار الذي جرى لم يكن تنازلا ولا ضعفا بل هو جزء من اسلحة المعركة المستخدمة لإعادة الأمن والإستقرار إلى ربوع البلاد لاسيما وأن الجيش هو الطرف الاقوى ظرفيا وبالتالي فهو الكاسب سلما أو حربا. بيد أن من المهم أن ينتبه الجيش لما يحاك عبر التفاوض من خلال ما يسمى بمسار العمل الإنساني، فكثيرا ما كان مثل هذا المسار طوقا يستخدمه الداعمون الخارجيون لعملائهم في مثل هذه النزاعات، فالمليشيا الان مهزومة أخلاقيا وعسكريا وتحتاج لمثل هذا الطوق لإنقاذها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى